التقاه قبل أربعة أيام من إعدامه: محامي صدّام حسين يروي تفاصيل تنشر لأول مرة..
لم تكن جريمة اغتيل الرئيس العراقي صدّام حسين، حدثا مرحليا عابرا، بل مثلت لحظة تاريخية متواصلة ومستمرة تعرّى فيها كل ما خفي وما اريد له الاختفاء... وحتى يكون للتاريخ ثوابته المتحولة، رأينا تثبيت تلك اللحظة، كتابة من خلال مسيرة رجل، أرادوا اغتياله في كل واحد منا، دون ان يقدروا على ذلك... بل مات شهيدا.. اردنا ان نطل على نافذة منها فالتقينا محاميه التونسي الاستاذ احمد الصديق الذي ودّع معه اليوم الأخير.

التقاه: منجي الخضراوي

كيف بدأت الرحلة للقاء الاخير بالرئيس صدّام؟

توجهنا ثلاثة محامين الى بغداد عن طريق الاردن وقد وصلنا الى مطار بغداد الدولي في حدود الساعة التاسعة والنصف تقريبا، وقد استقبلنا ضباط مكتب الارتباط الامريكي، الذين تولّوا القيام بكافة اجراءات الدخول، ولم يتدخل اي عراقي في ذلك وتم نقلنا الى موقع معيّن اين تم تغيير السيارات، ونقلونا ثانية الى معسكر اعتقال مخفورين بعدد من العربات العسكرية الامريكية وتم تجريدنا في الطريق من هواتفنا الشخصية كما خضعنا لتفتيش دقيق، وبعد الانتظار لمدة ساعة تقريبا احضر الرئيس صدّام وسط اجراءات امنية مشددة بحراسة امريكية فقط، وادخل الى قاعة اللقاء وبعد حوالي خمس دقائق تم الإذن لنا بالدخول الى القاعة حيث تم اللقاء.


ماذا دار بينكم وبين الرئيس؟

بدأ اللقاء حوالي الساعة الحادية عشرة، دخلنا انا والاستاذ ودود فوزي شمس الدين من العراق ومحامي عراقي شاب (طلب عدم ذكر اسمه لأسباب امنية). كان الرئيس واقفا خلفا مكتب كبير، يرتدي معطفا اسود انيقا وحول رقبته «كشكول» اسود ايضا اذ كان الطقس في بغداد باردا جدا. استقبلنا بابتسامة قائلا: «هلا بالرجال» بلكنة عراقية، تقدّم الاستاذ ودود اولا واحتظنه وقبّل يديه ثم تقدّمت اليه فبادرني بالترحيب «هلا ابو شهاب» (وهي كنية عراقية لكل من كان اسمه احمد) فصافحته اولا ثم احتضنني بحرارة مكررا عبارات الترحيب «هلا بيك... آش لونك... آش لون الصحة... كيف الأهل.. الله يبارك بيك» ثم وقفت امامه. فقال «كيف اهلنا بتونس.. ان شاء الله زينين» فأجبته «يسلمون عليك سيدي الرئيس». بعدها تقدّم منه المحامي العراقي الشاب وحضنه بحرارة... نزع الرئيس معطفه وغطاء الرقبة، ثم جلس وأذن لنا بالجلوس وكان الزميلان العراقيان حريصين على احترام موجبات البرتوكول الرئاسي علما وان اللقاء يتم حول طاولة ضخمة، وفاخرة مع علم العراق المكتوب فيه «الله أكبر» بخط الرئيس خلف كرسيه. فتح الرئيس صدّام حسين المجيد محفظته واخرج اوراقا، وتناول حقيبة صغيرة واخرج منها صندوق سيجار، اهدى كل واحد منا سيجارة كوبية واشعل واحدة. بدأ الحوار بعرض آخر المستجدات القانونية المتعلقة بالمحاكمات، واستمع الرئيس بانتباه الى العرض الذي قدّمته. وتساءل حول نقاط محددة (رفض ذكرها) فاجبناه عنها بالتفصيل. وبعد الانتهاء من الجانب القانوني الذي استحوذ على جزء أكبر من اللقاء، عرض عليه الزميل العراقي آخر التطوّرات فوجدناه على علم بكل التفاصيل وأخبرنا انه منذ اسبوعين تقريبا سمح له بالاستماع الى احدى الاذاعات الامريكية التي تبث في العراق، وبالاطلاع على الصحف العراقية، ولاحظ بأنه لم يعد هناك مجال للشك وان الامريكان اصبحوا يعترفون بمأزقهم الخطير في العراق مع العلم انه قبل ان ننفرد باللقاء مع الرئيس طلب منا احد الضباط الامريكان عدم تبادل الوثائق والاكتفاء فقط بالاطلاع، فعلق الرئيس صدّام على ذلك بابتسامته المعهودة قائلا هل مازلتم تخشون ان اوجّه شيئا الى المقاومة؟ وأضاف «اطمأنوا.. لقد رتبت امورها اثناء فترة اختفائي.. وهي الآن تسير وفق ما رتبته.. وانا راض عن أدائهم بل انا متأكد من انهم يبلون البلاء الحسن... كأنني معهم». أثناء اللقاء تحدّث الرئيس باسهاب عن يقينه بان النصر قريب جدا بقطع النظر عن مصير شخصه وأطنب في شكر المحامين الذين تطوّعوا للدفاع عنه وعن بقية رفاقه والأسرى وقال حرفيا موجها كلامه الينا، بعد ان ذكر أسماءنا واحدا بواحد: «ربما وأنتم منهمكون في اعداد اللوائح والشغل القانوني... لم تنتبهوا الى حجم العطاء الذي قدّمتموه.. ليس لصدام حسين بل للأمة وللقيم الانسانية الخالدة.. انني وفي كل ليلة اسأل نفسي.. هل يحق لي ان أقبل بأن يخاطر المحامون بحياتهم من أجلي... وأتذكر بحرقة الشهيد خميس العبيدي (عضو هيئة الدفاع) وأوصيكم.. وأوصي كل من يستطيع ذلك بأن لا يهملوا زوجته وأبناءه...» وأنهى «بارك الله فيكم وفي عوائلكم وجزاكم الله خيرا عما صنعتم وتصنعون».


هل تناولتم معه بعض المسائل السياسية؟

ـ لقد علّق الرئيس على مداخلة قصيرة للمحامي ودود فوزي حول الوفاء والصمود بأنه «لا يطلب عادة ان يكون الناس متساوين في حجم العطاء، لأن النفوس ليست متساوية في القدرة على التحمّل، هناك دائما من يكون في المقدمة وهناك من يكون موقعهم بحكم امكاناتهم في اخر الصف.. المهم دائما ان لا تكون المسافة بين الاول والاخير طويلة وهذا دور القيادة في ان تكون تلك المسافة أقصر ما أمكن» وأضاف: «أما عن الصلابة، فهي صفة الرجال عموما وأن تميز رجل عن الآخر ليس في الصلابة فقط بل في القدرة على جعل من معهم قادرين على تحمل الاعباء... وهي من صفات القيادة.. اذ ليس مهما ان تكون قادرا على المواجهة فقط، بل المهم ان تنجح في حشد من حولك ليكونوا معك في المواجهة بأكثر ما يمكن من الايمان والمطاولة... وأنا عكس ما يعتقد الكثيرون مازلت الى حد هذه اللحظة مؤمنا بشعبي وبرجال أمتي بقدرتهم على مواجهة الاعداء وانني والله لراض عنهم.. فسدد الله ضرباتهم وان نصرهم لقريب».


ماذا عرفتم عن شخصية صدّام الخفية.. صدّام الانسان؟

ـ سأل عن ابنته رغد مبتسما : «كيفها أم علي؟» وكان يوجه سؤاله الى المحامي العراقي الشاب.. فأجابه متنهّدا.. «تسلم عليك سيدي»، فعلق صدّام على الجواب والتنهيدة بالقول : «لا... هي سبعة أخت سباع» والتفت الينا موضحا : «تعلمون ان بناتي تربّين تربية محافظة ولم يكتسبن خبرة في العلاقات العامة وتدبير الامور.. ولكن عندما وجدن أنفسهن امام هذه الظروف وفي غياب أخويهما الشهيدين (قصي وعدي) استطعن الاضطلاع بأعباء جسيمة وخاصة رغد «هذه فعلا سبعة» فبارك الله فيها ومتّعها بالصحة والعافية... سلّمولي عليها...». لقد كان صدّام حسين يشع انسانية.. كان مرحا مازحا.. يذكر اسم الله في كل حركة، وأصرّ عندما أحضروا لنا طعام الغداء على ان يمدّه لنا بيديه.. وملأ لنا أكواب الماء بنفسه قائلا : «أريد ان أخدمكم فأنتم أعزاء»... ثم توجه أثناء الاكل بالحديث الى المحامي العراقي الشاب مبلغا تحياته الى زوجته السيدة ساجدة، وقدّم له رسالة مكتوبة تتضمن كلاما لطيفا وحميميا.. وعندما لاحظ علينا الاستغراب علّق مبتسما كعادته «يظل قلب صدّام حسين أخضر.. لأن صدّام مناضل قبل كل شيء والمناضل لا يتسرب اليه الجفاف.. ربما يجف قلب الرجل العادي في آخر العمر بعد سن التقاعد مثلا وبعد الاطمئنان على أبنائه.. ولكن تظل نفس المناضل مشبعة بالحياة حتى النفس الاخير (وهو ما ظهر عليه فعلا لحظة اغتياله اعداما). وأضاف: «تصرفت طيلة حياتي بنفسية المناضل وهو ما لا يفهمه الكثيرون أو لا يستطيعون استيعابه.. فالمناضل يكون دائما متهيئا نفسيا لأقسى الظروف كما لا تغريه لحظات الراحة والانتصار..» وقال ان المناضل الحقيقي يواجه كل الظروف بنفس مطمئنة وعقل بارد لأن الله ينعم عليه بالتوازن.


هل حدّثكم عن بعض الحقائق والقضايا التاريخية؟

ـ لقد كان الرئيس صدّام طيلة حديثه يتفادى توجيه اللوم الى اي كان وظل يبحث في كل مرة عن عذر للآخرين من رفاقه او ممن عرفهم سابقا.. وقال : «يجب ان تدركوا ان الحمل ثقيل على شعبنا.. ففيهم من اقتنع بأن ذلك هو قدرهم. وتصرّف على ذلك الأساس وفيهم من ضعفت نفسه دون ارادة شريرة ولكن موقعهم الطبيعي هو حضيرة الوطن التي سيعود اليها الجميع ولو بعد حين، وعلينا ان نساعد الجميع حتى يستغلوا مكامن القوة في نفوسهم بما يساعدهم على تحمل الاعباء». واستحضر الرئيس في اخر اللقاء ذكريات تاريخية في مسيرة حزب البعث والمحن التي تعرّض اليها في العراق وأكد على أنه لم يفرّق لحظة في حياته بين مكوّنات الشعب العراقي ولم يعامل اي طائفة على حساب الاخرى، وذكّر المحامي ودود بخطاب كان ألقاه من فوق سيارة في مدينة البصرة سنة 1979 عندما كان نائبا لرئيس الجمهورية حسن البكر، وقال خاطبت العراقيين، أحفاد نبوخذ نصر وسليلي الحضارات العريقة وركزت خطابي على ان كل العراقيين بمختلف مكوناتهم شركاء حقيقيون في هذا الوطن وقد اثار خطابي وقتها الكثير من التعاليق وبعض الاستياء لدى بعض القيادات الحزبية في حزب البعث لأنني ركزت على الخصوصية الوطنية العراقية واعتبروه نوعا من التوجّه القطري المتعارض مع الفكر القومي للحزب، وقد استلزم الامر كثيرا من الوقت في الجدل والنقاش حتى يقتنع الرفاق بأن عقيدتنا القومية لا يمكن أن تكون سليمة إذا ما أهملت الخصوصيات الوطنية وحقوق الاقليات... لقد تصرّفت دائما على أنني مسؤول عن كل مواطن عراقي وتصديت بحزم الى كل انزلاق او تصرّف طائفي اوعرقي وشعبنا يعلم ذلك جيّدا».


ألم تلمسوا لديه شعورا باليوم الأخير؟

ـ لقد لمست شخصيا ان الرئيس صدام تصرّف معنا دون ان يعلن صراحة انه اللقاء الاخير فحرص خلافا لعادته كما في كل المرّات السابقة على الاطناب في شكرنا ثم على التذكير بالقيم والمبادئ الخالدة وعند نهاية اللقاء، الذي دام اكثر من ثلاث ساعات ونصف. وقفنا لتوديعه الواحد تلو الآخر، واحتضنني ثانية، وخلافا للمرات السابقة حمّلني قبلتين لأهلي وقبلتين اضافيتين قال انها لكل الرفاق الاوفياء في تونس وبلغ سلامي الحار اليهم». وقد انتبهت الى أنه همس الى المحامي العراقي ودود فوزي وهو يحضنه «ربما لن تراني ثانية» ممّا أثّر على المحامي الذي بكى... وظل الرئيس واجما بعد مغادرتنا لمدّة طويلة. أثناء عودتنا من موقع اللقاء الى مقرّ اقامة المحامين بالمنطقة الخضراء خيّم علينا شعور مشترك بالحزن، ثم قال المحامي ودود فوزي «يا جماعة أخاف أن يكون فعلا هذا آخر لقاء مع الرئيس» وحال نزولنا من السيارة فوجئنا بصدور قرار الهيئة التمييزية المؤيد لحكم الاعدام في ظرف عشرة أيام فقط وتساءلنا بدهشة كيف أمكن البت في طعوننا الواردة في أكثر من ألف صفحة في هذه المدّة الوجيزة... عندها تأكدنا نهائيا وبشكل يقيني ان كل المحاكمة كانت مسرحية هزيلة وأن المكروه حاصل لا محالة. عندها اتفقنا على أن نتقاسم العمل بأن يبقى ودود فوزي في المنطقة الخضراء وطلب مباشرة لقاء آخر مع الرئيس في حين عدت أنا الى عمّان في اليوم الموالي لاعداد بعض الاجراءات القانونية الاخيرة للحيلولة دون تنفيذ حكم الاعدام الجائر.


قلت أنكم تأكدتم بأن المحاكمة هي مسرحية هزيلة ألا تعتبرون أنفسكم مشاركين فيها؟

ـ بالعكس، مشاركتنا كانت مهمة في فضح تلك المحاكمة وارباك القائمين عليها... يجب أن نتذكّر أن أطوار المحاكمة كشفت نتيجة عدم استجابة ما يسمّى بالمحكمة لطلبات الدفاع واللوائح والعرائض أنها بعيدة كل البعد، حتى في أدق التفاصيل الاجرائية عن أدنى شروط المحاكمة العادلة. أعتقدأن ما جاء في التقارير سواء تقرير «هيو من رايتس ووتش» (97 صفحة) وما جاء في تقرير مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة لاستقلالية القضاء والمحاماة، وتقرير المفوّض السامي لحقوق الانسان بالأمم المتحدة... ما كانت لتكون بذلك المحتوى والدرجة من الوضوح في إدانة المحاكمة لولا استشهاد الزملاء المحامين، ولولا الاحراج الذي سببناه للقضاة كما أن مشاركتنا في المحاكمة أتاحت لنا مقابلة الرئيس صدام ورفاقه وتوجيههم ما أمكن... أنا أتساءل هل كان سينتبه العالم لهذه المسرحية الهزيلة في غياب المحامين؟ أعتقد العكس تماما، ربما لزم الامر ان يسقط المحامون شهداء وأن يخاطر آخرون بحياتهم وأن تنشر صورهم في بعض التجمعات الطائفية في بغداد مع الدعوة الى قتلهم ونفي معظهم... حتى يقتنع العالم المتواطئ بصمته وسلبيته ان المحاكمة ليست الا غطاء لقرار تم اتخاذه مسبقا.


ما هي الاجراءات والاتصالات التي قمتم بها في هيئة الدفاع للحيلولة دون تنفيذ حكم الاعدام؟

ـ لقد بذلنا قصارى الجهد والى آخر لحظة، كل من موقعه وأودّ هنا ذكر من حاول الى آخر لحظة من اعضاء هيئة الدفاع، وهم تحديدا رامزي كلارك من امريكا ومحمد منيب في القاهرة وبشرى الخليل في عمّان وودود فوزي في عمان وأنا من تونس... وقد راسلت كل المنظمات الدولية وبشكل متواتر طيلة ساعات الليل، ولم نتوقف الا لحظة بث صور الاغتيال. ورغم أن الرئيس صدّام كان يوصي باستمرار وخاصة لخليل الدليمي رئيس هيئة الدفاع بأن لا يتصل أو يحرج القادة والرؤساء العرب، وأذكر أنه قال يوم صدور حكم الاعدام «لا تضعوا رقبة صدام حسين بين يدي أي منهم، أنا لا ألومهم ولا ألتمس لهم عذرا ولكن دعوا رقبتي بعيدة عنهم، لقد وضعتها بين يدي خالقي وتأكدوا من أنه لا يضيرني أن أقتل على يدي أعدائي، ذلك قدري وأنا مقبل عليه بقلب مؤمن ورأس مرفوع.. أعتقد أنكم تعرفون صدام حسين، لست بحاجة إلى تذكيركم». أؤكد أن كل المحاولات التي أرسلت الى القادة العرب للتدخل كانت من قبل خليل الدليمي وبعض أقرباء الرئيس، وتمّت بمبادرة فردية منهم وفي مخالفة لرغبة الرئيس، وأنا على أما أقول شهيد.


هل ترون، في لجنة الدفاع، أن تنفيذ حكم الاعدام وشنق الرئيس، كان منسجما مع القوانين والمعاهدات؟

ـ لقد تمّت جريمة قتل الرئيس الشهيد عند تنفيذ حكم الاعدام الجائر بواسطة حزمة من الخروقات القانونية والاجرائية، وكأن قدر صدام أن يفضح خصومه حتى لحظة اغتياله، فكما شاهد العالم أجمع، كان الحضور خليطا من المليشيات الطائفية التي لم تتورّع عن ترديد هتافات مقيتة، وندين هنا الجانب الأمريكي والعراقي في السماح لأفراد عصابات القتل بالتواجد في مكان التنفيذ وتصويره عبر هواتفهم الجوالة.. لم يكن إعداما رسميا قانونيا، بل كان رقصة انتقام وتشف بأتم معنى الكلمة، لم تحترم أدنى القيم الانسانية. وأضيف بأن هناك شكّا كبيرا في تعرّض جسد الشهيد للاعتداء بعد الاعدام حسبما أفاد به أكثر من شخص ممّن حضروا الدفن في العوجة بتكريت من كون وجه الشهيد كان يحمل كدمات لا يمكن أن يكون لها علاقة بعملية الشنق بل بفعل الاعتداء. وللتذكير فإن الاعدام يكون بطريقتين: إما أمام الملإ في ساحة عامة أو أن يكون في مكان مغلق غير عمومي، وهي الحالة من المفترض في اغتيال صدّام، إذ أنّ ما صدر عن مسؤولين عراقيين من أن الهتافات من داخل غرفة الاعدام كانت ردّة فعل عفوية ليس إلا كلاما سخيفا وغير مقبول لأنه لا يحقّ الحضور لعملية «الاعدام» إلا الجهة القضائية وشخصية دينية والسلطة التنفيذية وإطار طبي وأعوان التنفيذ. ما شاهدناه يدلّ على الوجه الحقيقي للعراق الجديد الذي غابت فيه الدولة وانعدم فيه القانون وتسيّد فيه الصفويون وعصابات الموساد تحت مظلّة الاحتلال الأمريكي، وما يمكن التأكيد عليه أن جريمة شنق الرئيس صدام مخالفة بالكامل لكل المعاهدات والمواثيق الدولية لأنه ما كان للمحكمة أن تحكم في حقّه بالاعدام حتى في صورة ثبوت إدانته، فكلّ القوانين والاتفاقيات الدولية التي عالجت ونظمت الجرائم ضدّ الانسانية وجرائم الحرب وجرائم الابادة المنسوبة زورا للرئيس صدّام، قد تخلّت منذ زمن بعيد عن عقوبة الاعدام، مع العلم أن آخر من أعدم بسبب هذه الجرائم هم قادة ألمانيا النازية في محاكمة نورنبارغ عام 1946، ومنذ ذلك التاريخ لم يحكم ضدّ أي من المتهمين بهذه الجرائم بالاعدام، ويمكن القول ان هذه العقوبة في حدّ ذاتها أصبحت محرّمة، إذ أن أقصى عقوبة في الجرائم ضدّ الانسانية هي السجن المؤبّد. رغم الصورة القاتمة والمؤلمة لجريمة اغتيال الرئيس صدام، فلقد تضمّنت شعاعا من الضوء أضاء عتمة غرفة الاعدام، مصدره وجه الرئيس الشهيد الذي تقدّم برابطة جأش لا نظير لها ثابتا غير مرتجف واثقا من نفسه مؤمنا بقدره وبعينين مفتوحتين ومثلما قلب الأدوار في المحكمة، عندما حاكم قضاته فإنه قلبها أيضا داخل غرفة الاعدام، فكان وجهه وحده سافرا ومطلا على العالم بينما اختفت وجوه الآخرين خلف السواد.


كيف تلقيت مشهد الشنق وأنت من آخر من لاقاه؟

ـ عندما شاهدت واقعة الشنق عبر شاشات التلفزة أحسست بأنفاسه الحارة التي لا يزال أثرها على وجنتي وأنا أودّعه وتأكد أنه رغم فظاعة المشهد لفلقد منحتني تلك الأنفاس سكينة وطمأنينة وهدوءا هي قبس من هدوئه ويقينه وخلاصة القول انني تأكدت في كل مرة قابلت فيها الرئيس صدام أنه شخصية أسطورية بأتمّ معنى الكلمة، جمع رباطة جأش أنصاف الآلهة الذين قرآنا عنهم في أساطير الأولين وصبر الانبياء وتواضع الفقراء. لقد كان فعلا يشعّ انسانية منقطعة النظير، بكل بساطة كان رجلا عظيما.