من مكارم الأخلاق (4)
الحمد له ، والصلاة والسلام على رسول الله ،،، وبعد :
فهذه توجيهات سلوكية في بعض مكارم الأخلاق , فمن ذلك ما أخرجه الحافظ أبو عيسى الترمذي رحمه الله وحسَّنه من حديث عبد الله بن سرجس المزني رضي الله عنه قال: "السَّمْت الحسن والتُّؤَدة والاقتصاد جزء من أربعة وعشرين جزءًا من النبوة" ([1]) .
فهذه ثلاثة أمور ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أنها جزء من أربعة وعشرين جزءًا من النبوة , وهذا يفيد بأن هذه أمور عظيمة لأن النبوة أمرها عظيم .
أولها : السمت الحسن , وهو الهيئة المعنوية الحسنة التي يكون عليها الإنسان .. من السكينة والوقار والتفكير المتَّزن والسير مع مقتضى الحكمة في القول والعمل .
والثاني : التؤدة وهي التأني في أمور الدنيا , ومن ذلك التريث في الحكم على الأمور وإصدار القرارات , والتأني في هذه الأمور يتيح الفرصة للتفكير المتزن والنظر إلى الأمور بحكمة .
والثالث : الاقتصاد وهو الاعتدال في الإنفاق , وذلك بأن تكون نفقة الإنسان وسطا بين التقتير والتبذير , كما قال الله تعالىSadوالذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتلوا وكان بين ذلك قواماً)الفرقان(67) ، ومما يشمله الاقتصاد التوسط في أمور الدين بين الغلو والتقصير .
ومما جاء في مكارم الأخلاق ما أخرجه الحافظ أبو عبد الله البخاري رحمه الله من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال : "قدم عبد الرحمن بن عوف المدينة , فآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري , وكان سعد ذا غنى , فقال لعبد الرحمن : أقاسمك مالي نصفين وأزوجك , قال: بارك الله لك في أهلك ومالك , دلوني على السوق , فما رجع حتى استفضل أقطا وسمنا , فأتى به أهل منـزله , فمكثنا يسيرا – أو ماشاء الله – فجاء وعليه وَضَر من صفرة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : مهْيَمْ ؟ قال: يارسول الله تزوجت امرأة من الأنصار , قال: ماسُقْتَ إليها؟ قال: نواة من ذهب – أو وزن نواة من ذهب – قال: أوْلِمْ ولو بشاة" ([2]) .
فهذا مثل جيد من الإيثار يقدمه سعد بن الربيع رضي الله عنه وهذا يبين لنا كيف أن الأنصار رضي الله عنهم بعدما هداهم الله تعالى للإسلام تجردوا من مصالحهم الذاتية , وتخلوا عن أعرافهم الجاهلية , وانصهروا تماما في بوتقة الإسلام , فسعدٌ في جاهليته لم يكن ليقَدِّم لأحد كائنا من كان نصف ماله , ولا ليتنازل له عن إحدى زوجتيه كما جاء في رواية أخرى للبخاري , ولكنه قدَّم ذلك بعدما أسلم سخيَّة به نفسه , وهذا يبين لنا عظمة الإسلام وقوة تأثيره على من آمن به حقا , حيث يصحح المفاهيم ويُجلِّي التصورات , ويدفع بالسلوك نحو القيَم العليا والأهداف السامية .
وبهذه الأخلاق العالية التي ربِّى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه نجح الصحابة في فتح القلوب قبل فتح الممالك , وقضوا على كل مظاهر التخلف الخلقي من الظلم والتجبر والطبقية المقيتة التي نتج عنها تعطيل الطاقات , وإخماد المدارك الفكرية والتخلق بالأخلاق السيئة , كالغل والحسد من المظلومين , والكبر والخيلاء من الظالمين .
وفي هذا الخبر مثل من العفة والشهامة والاعتماد بعد الله تعالى على النفس في طلب الرزق, حيث لم يقبل عبد الرحمن بن عوف ما عرضه عليه سعد بن الربيع رضي الله عنهما , وفضَّل أن يُؤَمِّن احتياجاته بنفسه , وهو مثل من بذل الطاقة في الإسهام في عمارة الأرض وتكوين القوة المادية للمسلمين .
وأخرج أبو عيسى الترمذي رحمه الله من حديث المكي بن إبراهيم رحمه الله قال : كنا عند ابن جريج المكي فجاء سائل فسأله , فقال ابن جريج لخازنه : أعطه دينارا , فقال: ماعندي إلا دينار إن أعطيته جعت وعيالك , قال: فغضب وقال: أعطه , قال المكي : فنحن عند ابن جريج إذ جاءه رجل بكتاب وصرَّة وقد بعث إليه بعض إخوانه , وفي الكتاب : إني قد بعثت خمسين دينارًا , قال: فحلَّ ابن جريج الصرة فعدَّها فإذا هي أحد وخمسون دينارا , قال: فقال ابن جريج لخازنه : قد أعطيت واحد فرد الله عليك وزادك خمسين دينارًا ([3]) .
فهذا مثل من أمثلة سخاء العلماء الذي أصبح مضرب الأمثال , وصورةٌ من صور اليقين, حيث كان العالم الحافظ عبد الملك بن عبد العزيز ابن جريج رحمه الله واثقا فيما عند الله جل وعلا من رزق وخير .. ومثل من لطف الله تعالى بأوليائه حيث وصل إليه في الحال ذلك المبلغ من المال , وكأنه كان مكافأة على الإحسان والمعروف وتحريضا على الاستمرار على ذلك.
ومن مكارم الأخلاق ملاطفة الأطفال والرفع من شخصياتهم , ومما جاء في ذلك ما أخرجه الحافظ أبو عيسى الترمذي رحمه الله وحسَّنه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخالطنا حتى إن كان ليقول لأخ لي صغير : يا أبا عمير مافعل النُّغير؟" ([4]).
فهذا مثل من تواضع النبي صلى الله عليه وسلم العظيم حيث يخاطب ذلك الطفل ويداعبه بسؤاله عن ذلك الطائر الذي يحبه . وهذا جانب من عظمة النبي صلى الله عليه وسلم , فبينما هو يدير أمور دولة الإسلام ويجابه الأهوال ويخطط للأمور الجسام ويقابل عظماء العرب إذا هو يداعب الأطفال ويلاطفهم ويرفع من معنوياتهم .
وفي حديث آخر نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم يمازح أحد الرجال , وذلك فيما أخرجه الحافظ أبو عيسى الترمذي وحسَّنه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه : " أن رجلا استحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم [أي طلب منه أن يحمله] فقال: إني حاملك على ولد الناقة , فقال: يارسول الله ما أصنع بولد الناقة ؟ [يعني أنه صغير لايحمل] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وهل تلد الإبلَ إلا النوقُ؟" ([5]) وكذلك أخرجه أبو داود السجستاني من حديث أنس رضي الله عنه ([6]) .
يعني وإن كان كبيرا فهو ولد الناقة , وهذا المزاح المعتدل اللطيف له فوائد منها إزالة الكلفة والهيبة التي تستقر في النفوس للرجال العظماء , وهذه الهيبة قد تُحرج بعض الناس أو تمنعهم من كلامٍ يريدون أن يقولوه أو تصرُّف يريدون أن يفعلوه .
وكان صلى الله عليه وسلم معتدلا في مزحه وبقدر معين ومع أناس معينين , ولايقول إلا حقا , كما أخرج الحافظ أبو عيسى الترمذي رحمه الله وحسَّنه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالوا : يارسول الله إنك تداعبنا , قال: إني لاأقول إلا حقا ([7]) .
ومن ماجاء في أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم العالية في معاملة أهله ما أخرجه أبو داود السجستاني رحمه الله من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه قال : "استأذن أبو بكر رحمة الله عليه على النبي صلى الله عليه وسلم , فسمع صوت عائشة عاليا , فلما دخل تناولها ليلطمها وقال : ألا أراك ترفعين صوتك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يحجزه , وخرج أبو بكر مغضبا , فقال النبي صلى الله عليه وسلم حين خرج أبو بكر : كيف رأيتني أنقذتك من الرجل ؟ قال: فمكث أبو بكر أياما ثم استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدهما قد اصطلحا , فقال لهما : أدخلاني في سلمكما كما أدخلتماني في حربكما , فقال النبي صلى الله عليه وسلم : قد فعلنا , قد فعلنا " ([8]) .
-----------------------------
([1] ) سنن الترمذي , رقم 2010 , كتاب البر , باب 66, (4/366 .
([2] ) صحيح البخاري , رقم 2049 , كتاب البيوع , باب 1 (4/288 ) .
([3] ) سنن الترمذي 2035 , كتاب البر , باب 87 ( 4/380 ) .
([4] ) سنن الترمذي , رقم 1989 , كتاب البر , باب 57 ( 4/357) .
([5] ) سنن الترمذي , رقم 1991 , كتاب البر , باب 57 (4/357) .
([6] ) سنن أبي داود , رقم 4998 , كتاب الأدب , باب 92 ( 5/270 ) .
([7] ) سنن الترمذي , رقم 1990 , كتاب البر , باب 57 (4/357 ) .
([8] ) سنن أبي داود , رقم 4999 , كتاب الأدب , باب 92 ( 5/271 ) .