ألساعات طويلة، وبدون أية أهداف غير البحث المستمر عن الترويح عن النفس، لكن دون جدوى… يجلس عشرات من الشبان الصغار والكهول في ذلك المقهى. يشربون الشاي والقهوة، ويدخنون النارجيلة. أحاديثهم لا تبتعد كثيرا عن الانتفاضة، الوضع السياسي والميداني يشغلهم، وكأنهم يجلسون في صالون سياسي عريق.
قلة هم الذين حافظوا على أعمالهم ومصادر رزقهم، فالبطالة وصلت إلى أعلى مستوى لها منذ سنوات، ومن المستحيل في ظل هذه المواجهات وهذا الحصار أن يصلوا (أو يفكروا بالوصول) إلى ما وراء الخط الأخضر الذي يقسم فلسطين إلى أجزاء تتواصل تاريخياً وعاطفياً، وتنفصل عملياً.
إنهم يدفعون ثمن أخطائهم وأخطاء من يخططون ويرسمون السياسات في المستويات العليا من القرار الفلسطيني…كما أنهم يدفعون ثمن السياسة العنصرية الصهيونية التي تحارب كل ما هو فلسطيني في دمه وروحه ولقمة عيشه.
فهل من الصواب ترك العلم والدراسة (والتسرب بنسب عالية) سعياً وراء العمل في الأرض المحتلة عام1948؟ كثيرون هم الذين يفضلون ترك مقاعد المدرسة سعياً وراء شواقل يكسبونها من العمل في المستوطنات وفي أراضيهم المحتلة في كل مكان. وها هم الآن يقطفون ثمرة هذه القرارات التي يتخذها معظمهم في سني عمرهم الزاهرة، قبل النضوج الكافي لاتخاذها.
الإغراء المادي (في أوقات إيجاد العمل) يعمي قلوبهم عن الصواب. كما أن قلة منهم تتجه إلى العمل في الأرض التي يسقط من أجلها آلاف الشهداء. وهذه النقاط السلبية في شبابنا، تهدي الى المحتل أساليب وأسلحة يستخدمها ضدنا، للضغط على صمودنا المشرف، فهو يستطيع أن يتلاعب باقتصادنا ورزقنا، وبالتالي بقدراتنا العامة في أي وقت يشاء.
نحن نحتاج الى النهضة العلمية (وليس فقط التعليمية) لكي نبني دولتنا العتيدة، بل أننا نحتاجها في نضالنا المستمر ضد الصهاينة.
قادتنا، ووزراؤنا، وصناع القرار في بلادنا يتحملون جزءاً كبيراً من الخطيئة لأنهم لم يرتبوا الوضع الاقتصادي للمواجهة، عليهم أن يأخذوا مسؤوليتهم لاطلاق المشاريع، وإيجاد فرص العمل لكل رب أسرة فلسطيني، فهو على ثغرة من ثغور النضال والمقاومة. وإن كانوا يفكرون في الإبقاء على ورقات انتفاضتنا الرابحة، عليهم أن يخرجوا من قصورهم وسياراتهم الفارهة التي كسبوها بالفساد والاختلاس (ونحن لا نملك أن نعمم هنا) لكي يفكروا في كل فرد وكل طفل هل وجد قوت يومه وهل أرتقى عن التفكير في الرزق ليساعد في المقاومة والبناء. وإن لم تَرُقْ لهم الفكرة، فلا حاجة لنا بهم… كما لا حاجة لهم بنا .
هنالك ارتباط وثيق بين الفساد المَرَضي الذي يستشري في الجسد الفلسطيني، وهؤلاء الشباب العاطلين عن العمل. وما يؤكد هذه الفكرة هو وجود من يرقصون ويغنون ويقيمون الحفلات في الوقت الذي ينام فيه العشرات من الأسر في رفح وخانيونس متوسدين الأرض وملتحفين السماء؛ الأرضُ أحن عليهم من غباء ساستهم، والسماءُ هي الله الذي لا ينسى عبادَه خاصةً إذا عرفنا أنه يحرّم الظلم على نفسه. الطبقات التي أفرزها الوضع الخطير بعد اوسلو، لا يمكن أن تكون عاملاً مساعدا لحل أية مشكلة نعيشها. فكيف سنفكر إذا عرفنا أن من بيننا من تتضرر مصالحه من زوال الاحتلال؟ فهو إما وكيل لمصنع إسرائيلي أو مسيطر على أحد المعابر أو غير ذلك.
والعدو الصهيوني، يرغب دائما أن يغمس لقمة عيش عمالنا بالذل، والعنصرية، وكل من يراقب معبر"ايرز" أو غيره يفهم ما أعنيه بشكل واضح…
هذه المعادلة المعقدة من الأخطاء وتحمل مسؤولياتها، يجب أن تُدرس بشكل مركز للخروج من أزمة البطالة التي تواكب هذا الصمود المميز، وإن لم تسعفنا عقولُنا بالأفكار فنحن في ورطة كبيرة لا يمكن أن تحل باقتطاع 5% من رواتب صغار الموظفين وترك الآخرين يأكلون حقوق العباد ببطون متخمة بأموالهم.
ما نطمح إليه هو استمرار الحملة القوية ضد رموز الفساد وتعزيز الرقابة والتفتيش والمحاسبة، واطلاق سياسة "من أين لك هذا؟"…واسترداد الأموال المسلوبة لوضعها في الاتجاه الصحيح، عن طريق التخطيط للمشاريع والتعجيل بإيجاد فرص العمل لمن تنهش البطالة لحمهم.
الشاي والقهوة والنارجيلة تحث الذين يحتسونها أن يفكروا ويناقشوا وضعهم، لكن لا يمكن أن تساهم في الخروج من الأزمات