التحذير من الغيبة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ..
وبعد : فإن من التوجيهات النبوية في الحفاظ على الأخوة الإسلامية حماية أفراد الأمة من مساوئ الأخلاق التي تضعف مابينهم من رابطة وأخوة , وإن من أبرز الأخلاق السيئة التي جاء النهي عنها في القرآن الكريم والسنة الشريفة الوقوع في غيبة المؤمنين .
ولقد بين النبي صلى الله عليه وسلم الغيبة بقوله " أتدرون ما الغيبة ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال: ذكرك أخاك بما يكره , قيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال: إن كان فيه ماتقول فقد اغتبته , وإن لم يكن فيه فقد بهته " . أخرجه الإمام مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه([1]) .
وهكذا عرف النبي صلى الله عليه وسلم الغيبة بأنها ذكر المسلم في حال غيبته بما يكره, وقد كان بعض الصحابة رضي الله عنهم يظنون بأن الأمر المنكر هو أن تذكر أخاك المسلم بما ليس فيه, وأن ذكره بما فيه من العيوب ليس بأمر منكر , فأبان لهم صلى الله عليه وسلم بأن ذكر عيوب المسلم التي هي فيه وهو غائب هو الغيبة , وأن ذكره بما ليس فيه بهتان لأن ذلك من الكذب عليه, وهو في نفس الأمر غيبة إذا كان من قيل فيه غائبا, فتكون الصورة الأخيرة قد جمعت بين كبيرتين: الغيبة والبهتان .
ومما يدل على عدم فهم بعض الصحابة للغيبة قبل بيان النبي صلى الله عليه وسلم وأنهم كانوا يظنون أن ذكر الإنسان بما فيه ليس بأمر منكر ما أخرجه أبو داود والترمذي رحمهما الله من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : قلت يارسول الله حسبك من صفية قصرُها , فقال : لقد قلت كلمة لو مزج بها البحر لمزجته .
قالت : وحكيت له إنسانا فقال : ما أحب أني حكيت إنسانا وأن لي كذا وكذا([2]).
ولقد كان رد النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة رضي الله عنها بليغا وقويا , حيث شبه تلك الكلمة من الغيبة بجسم منتن كريه الرائحة يُرمَى به في البحر فيغير من رائحته وهو أسلوب مؤثر في التنفير من الغيبة .
وفي هذا الحديث بيان أن حكاية حركات الإنسان من مشيته وكلامه ونحو ذلك يعدُّ من الغيبة , لأنه لو علم بالذين يقلدونه لكره ذلك .
ونجد أن النبي صلى الله عليه وسلم يغتنم الفرص التي تمر به ليدعو إلى الله تعالى وينفر المسلمين من الغيبة , فقد أخرج الإمام أحمد رحمه الله تعالى من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فارتفعت ريح منتنة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتدرون ما هذه الريح ؟ هذه ريح الذين يغتابون المؤمنين ([3]) . وإن هذا المثل يجعل المسلم كلما شم ريحا قبيحة تذكر الغيبة ونفر منها .
ومن أمثلة ذلك أيضًا ما أخرجه الطبراني رحمه الله في المعجم الكبير من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله صللى الله عليه وسلم فقام رجل فوقع فيه رجل من بعده, فقال له : تخلَّل , فقال: ومم أتخلل يارسول الله أأكلت لحما ؟ قال: إنك أكلت لحم أخيك ([4]).
وهكذا ذكر رسول الله صللى الله عليه وسلم مضمون قول الله تعالى :
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ) (الحجرات : 12 )
فقد ذكره في واقعة حدثت, حيث أمر ذلك الرجل الذي وقع في الغيبة بأن يخلل أسنانه من آثار اللحم , فلما استنكر ذلك أبان له بأنه بانتهاكه عرض أخيه كأنما بسط لحمه وصار يأكل منه .
وإنه ليكفي في بيان حجم ضرر الغيبة ذكرها في القرآن على سبيل النهي عنها والتنفير منها .
ومما جاء في التنفير من الغيبة ما أخرجه أبو داود رحمه الله تعالى من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لما عُرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم فقلت: من هؤلاء ياجبريل ؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم([5]) .
فهذا الحديث الصحيح يبين لنا مشهدًا من مشاهد يوم القيامة الهائلة , ففي مقابل أكل لحوم المسلمين بالغيبة يسلط الله تعالى على المغتابين يوم القيامة أظفارهم النحاسية التي يخمشون بها وجوههم وصدورهم , ولا أظن من تذكر هذا المشهد سيُقبل على الغيبة بعد ذلك .
ولما كان الربا قد استقر حكمه وعرف المسلمون فظاعته ونكارته فإن النبي صلى الله عليه وسلم يمثل به في بيان نكارة الغيبة حيث يقول : " إن أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق" أخرجه أبو داود رحمه الله تعالى من حديث سعيد بن زيد رضي الله عنه ([6]).
فالربا من أكبر الكبائر ومن المعاملات التي تدمر الكيان المالي للأمة , ولما كانت فظاعة الربا معلومة فإن النبي صلى الله عليه وسلم يغتنم الفرصة من ذلك لبيان شيء يعدُّ من أكبر أنواع الربا , ألا وهو الخوض في عرض المسلم بغير حق , فإنه إذا كان الربا تدميرًا للكيان المالي فإن الغيبة تدمير للكيان الخلقي للأمة .
ويبين رسول الله صلى الله عليه وسلم العقاب الأليم لمن استفاد أمورًا دنيوية من خلال خوضه في أعراض إخوانه حيث يقول : " من أكل برجل مسلم أكلةً فإن الله يطعمه مثلها من جهنم , ومن كسى ثوبا برجل مسلم فإن الله يكسوه مثله من جهنم , ومن قام برجل مقام سمعة ورياء فإن الله يقوم به مقام سمعة ورياء يوم القيامة " أخرجه أبو داود رحمه الله من حديث المستورد ([7]).
فهذا جزاء من جنس العمل , فالذي يتسلق على جثث إخوانه المسلمين , ويبني له مجدا دنيويا على حساب خوضه في أعراضهم فإنه يلقى بذلك عذابا مضاعفا في جهنم, ويظهر أمام الناس يوم القيامة بمظهر الخزي والعار بدلا من الجاه الذي حصل عليه في الدنيا , وأي إنسان عاقل يرضى بهذه النتيجة السيئة ؟!!
----------------------------
([1] ) صحيح مسلم , رقم 2589 , كتاب البر (ص 2001) ؛ سنن أبي داود رقم 4875 في الأدب , باب الغيبة .
([2] ) سنن الترمذي رقم 2503 في القيامة , باب تحريم الغيبة .
([3] ) جمع الفوائد رقم 8004 .
([4] ) جمع الفوائد رقم 8005 .
([5] ) سنن أبي داود , رقم 4878 , في الأدب , باب الغيبة .
([6] ) سنن أبي داود , رقم 4876 , في الأدب , باب الغيبة .
([7] ) جمع الفوائد رقم 7999 .