بسم الله الرحمن الرحيم
الناسخ و المنسوخ
تقديم بين يدي البحث :
الدول والشعوب حينما تسعى لفرض النظام بين شعوبها تُقنِّن لهم القوانين وتضع لهم الدستور والغاية الأولى والأخيرة من هذه القوانين وتلك التشريعات هي إقامة مصالح العباد ودوام انتفاع الناس وتآلفهم ضمن ما قنن لهم ، ويتغير الزمان أو المكان أو الأجيال ربما - بل- تجدّ مصالح جديدة وتظهر حالات مستجدة لا يمكن للقانون السابق أن يسايرها ، فترى الدولة المقننة والشعب الواضع للدستور سارع ليضع قانونا أو مادة في قانون أو نظاما تشريعياً يساعد على مسايرة هذه الحالات ويكفل ما عجز القانون الأول عن كفالته من الحقوق والواجبات دون أن يكون لذلك أثر في صلاح القانون أو فساده بل هي إشارة إلى تفهم حالات الناس المستجدة ومسايرة للواقع الذي يبنى على إقامة مصالح الجميع ضمن النظام وفي حدود القانون وفي الحقيقة يكون القانون و التشريع الجديد قد حل محل القديم وقام مقامه .
فإذا كان التغير موجودا بين أحكام القوانين الوضعية وتشريعاتها نظرا لمصالح العباد فالشريعة الإسلامية التي كرمت الإنسان وأقامت نظامها حتى يعيش الناس آمنين مطمئنين } كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه { (1) ، } لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب و الميزان ليقوم الناس بالقسط { (2) ، أولى بهذا التغيير ذلك أن المصالح متجددة فلها أيضا أحكامها المتجددة ضمن نظام قال الله تعالى فيه } قال فمن ربكما يا موسى قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى{ (3) .
وهذا التغيير ضمن شرع الله سماه علماؤنا وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم النسخ وقد وقع بين الشرائع السماوية كلها بل وفي كل شريعة منها على حدة .
تساؤل لا بد منه :
1- إذا كان النسخ قد وقع بين كل الشرائع ونحن مؤمنون أن الله تعالى عليم حكيم وعلمه دائم من الأزل إلى الأبد والله يعلم ما كان وما يكون وما سيكون ؛ لماذا إذن يتغير القانون أو التشريع ؟
وبمعنى آخر : التغير يطرأ علينا نحن البشر فنغير القوانين لأن علمنا حادث ولا نعلم المستجدات التي ستحصل أما الله تجلى في سمائه فهو العالم العليم العلام يعلم كل شيء فهل حينما يشرع مرة أخرى يكون قد علم شيئا لم يكن قد علمه ؟ لعل هذا الاحتمال والسؤال يخطر على بال كل من يقرأ الناسخ و المنسوخ بل وكما قال الإمام مكي بن أبي طالب (4) هذا التساؤل إذا فهمناه فهو الأصل الذي يبنى عليه الناسخ والمنسوخ فاعلم جوابه فيما يلي :
اعلم أن الله جل ذكره هو الآمر فوق كل آمر ، قد علم ما سيكون قبل أن يكون ، وكيف يكون ما علم أنه سيكون و إلى متى يبقى ما قدر أنه سيكون ، فهو تعالى قد علم ما سيأمر به خلقه ويتعبدهم به وما ينهاهم عنه وعلم ما يقرهم عليه من أوامر ونواهٍ ، وما ينقلهم عنه إلى ما أراد من عبادته ، وعلم وقت ما يأمرهم وينهاهم ووقت ينقلهم عن ذلك قبل أمره لهم ونهيه ، وذلك جميعه منوط بما فيه الصلاح للعباد دنيا وأخرى ؛ فهو يأمرهم بأمر في وقت لما فيه من صلاحهم في ذلك الوقت وقد علم أنه يزيلهم عن ذلك في وقت آخر لما علم فيه من صلاحهم في ذلك الوقت الثاني .
فهو تعالى لم يزل مريدا للفعل الأول إلى الوقت الذي أراد فيه نسخه ، ومريدا لا يجاب بدله أو إزالة حكمه لغير بدل في الوقت الذي أراد رفع حكم الأول فينسخ بأمره مأموراً به بمأمور به آخر .
فأمره هو كلامه – الذي يأمرنا به في القرآن أو النص التشريعي – صفة له لا تغيير فيه ولا تبديل وإنما التغيير والتبديل في المأمور به فافهم هذا فإن أهل البدع ربما لبسوا في ذلك وجعلوا التغيير والتبديل في أمره ليثبتوا خلق القرآن – تعالى الله عن ذلك لا تبديل لكلماته .
وإليك الدليل والتمثيل على جوابنا الذي أشار إليه الحارث المحاسبي في كتابه فهم القرآن :
فالله عز وجل قدر في غيبه الأول بلا أمد تغيير الشرائع وتبديل الملل على ألسنة الأنبياء والمرسلين واختلاف أحكامها كما أراد ، فأتى كل رسول قومه بشرع شرعه الله مخالف لشرع من كان قبله من الرسل بدليل قول الله تعالى } لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً { (5) وقوله } ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها { (6) وذلك منه تعالى تعبد واختبار وابتلاء للطائع والعاصي ، ولما علم ما فيه من صلاح عباده ليعلم منهم علم مشاهدة يقع عليه الجزاء لأهل الطاعة من أهل المعصية ، مع أن الله علم ذلك منهم قبل خلقهم بلا أمد لكن ذلك علم لا تكون عليه المجازاة إنما تكون المجازاة على ما ظهر من الأعمال بدليل قول الله تعالى } ليبلوكم أيكم أحسن عملاً { (7).
فالملل والشرائع كلها متفقة في أنها عبادة لله وطاعة له وهي مختلفة في الهيئة والعدد والرتبة .
وكذلك الناسخ والمنسوخ كله عبادة لله وطاعة له وفرض منه علينا ، فعله كله طاعة لله على ما رتبه وأمر به في أزمانه وأوقاته وإن كان مختلفاً في الهيئة والصفة .
ومثل ذلك من كتاب الله أن الله تبارك وتعالى أمر إبراهيم عليه السلام – بذبح ابنه ليبتليه ويختبر طاعته ويثيبه – اختباراً موجوداً لتقع عليه المجازاة وقد علم قبل أمره له أنه يطيعه في ما أمره به ، لكن المجازاة إنما تقع على الأعمال الموجودة لا على علم الله تعالى بذلك ، قبل - وجود طاعة الطائع ومعصية العاصي – وعلم أيضاً تبارك وتعالى أنه يفدي الذبيح بكبش بعد إضجاعه للذبح ، فاستخرج منهما التسليم لأمره والطاعة له فيما أمرهما : لتصح المجازاة على فعل موجود بدليل قول الله تعالى في ذلك } فلما أسلما وتله للجبين { (.
والذبح من إبراهيم لابنه مأمور به ، وذبحه للكبش بدلاً منه مأمور به أيضاً ، وكلاهما مراد الله، وأمر وكلام الله واحد لا اختلاف فيه ، وإنما الاختلاف في المأمور به في وقتين مختلفين متقدمين في علم الله تبارك وتعالى قبل علم كل مخلوق ، لم يسبق أحدهما الآخر تعالى الله عن أن يكون ما لا يعلمه أو أن يبدو له ما لم يتقدم في علمه .
ولأجل ما أراد الله من النسخ للرفق بعباده والصلاح لهم أنزل القرآن شيئاً بعد شيء ولم ينزله جملة واحدة ؛ لأنه لو نزل جملة واحدة لم يجز أن يكون فيه ناسخ ولا منسوخ ، إذ غير جائز أن يقول في وقت واحد : افعلوا كذا ولا تفعلوا كذا – لذلك الشيء بعينه - .
___________________________________
(1) سورة البقرة الآية 213
(2) سورة الحديد الآية 25
(3) سورة طه الآية 49 ، 50
(4) في كتابه الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه تحقيق الدكتور أحمد حسن فرحات طبع دار المنارة جدة ص 59
(5) سورة المائدة الآية 48
(6) سورة الجاثية الآية 18
(7) سورة الملك الآية 2 سورة هود الآية 7
( سورة الصافات الآية 103 .