الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ..
وبعد : فقد تقدم لنا ذكر حديث السبعة الذين يظلهم الله تعالى تحت ظل عرشه يوم لاظل إلا ظله, وتحدثنا عن ثلاثة منهم وهم الإمام العادل والشاب الذي نشأ في عبادة الله تعالى, والرجل الذي قلبه معلق في المساجد .
رابعًا : " ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه " , فقلوبهما لم تعمر بغير محبة الله تعالى , وعلاقتهما لم تُبْن على الروابط المادية , ولا على رابطة النسب واللغة والوطن التي لاتخضع لرابطة المحبة في الله جل وعلا .
بل تجتمع قلوبهما حين يلتقيان على محبة الله سبحانه , ويُخضعان لهذه المحبة جميع تصرفاتهما, فينطلقان في دائرة الفعل ودائرة الترك من الحرص على مايرضي الله تعالى والحذر مما يسخطه , وحين يتفرقان يوصي كل واحد منهما أخاه بالاستقامة على أمور الدين , ويحاسب كل واحد منهما الآخر على أخطائه لأنه يحب له ما يحب لنفسه .
ولقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر أن هذه الخصلة من خصال الإيمان , وذلك في قوله " ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان , أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما, وأن يحب المرء لايحبه إلا لله , وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار "أخرجه الشيخان من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه ([1]) .
ولقد كان الصحابة رضي الله عنهم إذا التقوا سأل الواحد منهم أخاه عن حزبه في القرآن, كما فعل معاذ بن جبل وأبو موسى الأشعري رضي الله عنهما حينما كانا في اليمن , وربما تساءلوا عن العلم وذكَّر بعضهم بعضا .
خامسا : "ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال : إني أخاف الله " فهذا الرجل قد حماه ورعه, ولم يحمله تعرضه للفتنة على الاستجابة لغرائزه فيما يسخط الله تعالى عليه , بل حكَّم عقله المستنير بنور الله تعالى في ميوله وعواطفه .
فهذا الرجل قد وقع في صراع بين عقله السليم وعاطفته المنحرفة , ولكنه في النهاية غلَّب عقله السليم فكبح جماح نفسه عن التردي في المهالك .
وفي هذا يظهر لنا مثل من عظمة الإسلام في تحرير العقل من إسار العواطف المنحرفة , وتخليص النفس من الانحدار نحو البهيمية .
ولقد كان التخلص من سطوة الغريزة والاستسلام لنداء العقل السليم المنسجم من شريعة الله تعالى من أزكى الأعمال التي كانت سببا في الخلاص من هلاك محقق كما في خبر الثلاثة أصحاب الغار الذين أووا إليه من المطر فانطبقت على بابه صخرة , فلم يتمكنوا من الخروج منه, فدعا كل واحد منهم بعمل صالح له لعل الله تعالى ينجيهم , وقد توسل أحدهم إلى الله تعالى بإعفاف نفسه من الزنى بعد أن تمكن منه ففرج الله عنهم فخرجوا ([2]) .
فهذا الرجل الذي دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله تعالى قد فاز في الآخرة بهذا الجزاء العظيم مقابل إعفاف نفسه من الحرام طاعة لله تعالى وخشية منه .
ويشبه هذا الرجل من اضطرته ظروف المعيشة أو الدراسة إلى أن يعيش في بلد قد عمر بالفتن, فأصبح يتعرض لأسباب الهلاك والانهيار الخلقي , ولكنه اعتصم بدينه ومنعه خوفه من الله عز وجل من الانخراط في سلك الهالكين .
فهذا وأمثاله قد تيسرت لهم أسباب المتعة التي حرمها الله تعالى من غير أن يغامروا في سبيل الحصول عليها , ومع ذلك امتنعوا من اقتراف الإثم خوفا من الله عز وجل , ورجاء لما عنده , فالدوافع نحو الهبوط في الرذيلة قوية , ولكن إيمانهم بالله تعالى أقوي من ذلك , ولهذا منعهم من السقوط ورفعهم إلى الأعلى .
فهؤلاء عاشوا في وسط اللهب ولم يحترقوا فيه , لأن لهم من إيمانهم القوي ماشكَّل حصانة قوية لأنفسهم من الوقوع في حمأة الرذيلة .
سادسًا : " ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لاتعلم شماله ماتنفق يمينه " فهذا رجل قد عمر الإخلاص لله تعالى قلبه , فلم يتمثل فيه غير إرادة العمل بما يرضيه واجتناب مايسخطه وبالتالي فإن سلوكه قد تحدد على اعتبار هذا المبدأ , فلم يلتفت إلى إعجاب الناس به وثنائهم عليه , لأنه لايقيم لهم وزنا , أما الله تعالى الذي تمثل الإيمان به في قلبه وشغل باله وتفكيره فهو مطلع على عمله وإن أخفاه , فهو يخفي هذا العمل الصالح إمعانا في الإخلاص لله تعالى , لأنه يخشى من اطلاع الناس على عمله أن يداخله شيء من الرياء فينقص بذلك إخلاصه لله جل وعلا , وبالتالي ينقص ثواب عمله .
وهذا المثل الذي ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم للمبالغة في إخفاء الصدقة دليل على استحباب العناية بإخفاء العمل الصالح حفاظا على سلامة التوحيد من الخلل وسلامة الثواب من أن ينتقص .
وفي هذا الحديث دليل على أن إخفاء الصدقة أفضل من إعلانها , ويؤيد ذلك ما أخرجه الإمام أحمد من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الملائكة قالت: يارب هل من خلقك شيء أشد من الجبال ؟ قال: نعم , الحديد , قالت: فهل أشد من الحديد ؟ قال: نعم, النار , قالت : فهل أشد من النار ؟ قال : نعم ,الماء , قالت: فهل أشد من الماء ؟ قال : نعم, الريح , قالت:فهل أشد من الريح ؟ قالت: نعم :ابن آدم يتصدق بيمينه فيخفيها عن شماله" ([3]) .
وهكذا تسلسلت هذه الأسئلة في أشد خلق الله تعالى , فكانت الملائكة عليهم السلام ترى أن أشد خلق الله جل وعلا الجبال , ولكن الحديد يفل الجبال ويفتتها وأشد منه النار التي يصهر بها الحديد حتى يذوب , وأشد من النار الماء الذي يطفئها , وأشد من الماء الريح التي يسوق الله سبحانه بها السحاب المحمل بالماء .
ولكن أشد من ذلك كله المؤمن القوي الذي قدر على كبح جماح نفسه وتطلِّعها نحو المجد والجاه الدنيوي فأخفى صدقته ابتغاء وجه الله جل وعلا .
ولكن هل إخفاء الصدقة أفضل في جميع الأحوال ؟
الواقع أنه أفضل إلا حينما تدعو حاجة المسلمين إلى إعلان الصدقة فإنه ينبغي للإمام أن يدعو إليها علنا كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حال النكبات والحاجات التي تمر بالمسلمين لتحصل القدوة الحسنة بأصحاب الإيمان القوي الذين يبذلون من أموالهم الكثير في سبيل الله تعالى .
سابعا : ٍ "ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه" وذلك لما يتصف به من خشية الله تعالى , وهذا دليل على عظمة وجود الإيمان به جل وعلا في قلبه , وأن استشعار عظمته هو الذي أصبح مهيمنا على مشاعره , فإذا ذكر الله سبحانه الذي هو أعظم محبوب لديه اهتز وجدانه وجاشت مشاعره , فظهر التعبير عن ذلك بقطرات الدمع التي تفيض بها عيناه , ولو كان في قلبه قوة أخرى تهيمن عليه لغفل وقسا قلبه , ولم يكن لذكر الله تعالى أثر كبير على نفسه , وكونه يتأثر بذكر الله جل وعلا وهو وحده دليل على إخلاص مشاعره نحوه , فبذلك استحق هذا الجزاء العظيم .
-----------------------------
([1] ) صحيح البخاري , رقم 16 , الإيمان (1/60) , صحيح مسلم , رقم 67/43 , الإيمان (ص66) .
([2] ) ينظر الحديث في صحيح البخاري , رقم 3465 , الأنبياء (6/505) .
([3] ) مسند أحمد 3/124 .