التلاحم بين المؤمنين
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ..
وبعد : فنحن اليوم مع حديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعدُّ من جوامع الكلم , وهو ما أخرجه الشيخان من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا , وشبك بين أصابعه"(1)
ففي هذا الحديث يشبِّه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يجب أن يكون عليه المسلمون من تفاهم وتلاحم بالبيت الذي تم بناؤه بإحكام وعناية .
فحينما يمر الإنسان على قصر شاهق جميل فإنه يقف أمامه وقفة المتأمل ويثني على من شيده .
وحينما يفكر في المواد الأولية التي شُيِّد منها ذلك القصر يجد أنها لبناتٌ وحديد ومواد أخرى لاتلفت الانتباه , بل تبقى ملقاة على الأرض لايستفاد من كل مادة منها إلا إذا رُكِّبت مع المواد الأخرى لتشكِّل في المستقبل بناء محكما .
وهكذا نجد المجتمع الإسلامي فهو جسم عظيم هائل , وبناء قوي محكم , حينما يكون أفراده على قلب رجل واحد , وحينما يكون هدفهم جميعا نصرة الإسلام وإحكامَ بناء المجتمع الإسلامي.
فحينما يتخذ المسلم الإسلام مبدأ له في الحياة فإنه يتحمس لاتِّباعه ويدافع عنه ويحاول فهم نصوصه ليبينها للناس , ويبذل جهده في كسب أكبر عدد من المؤمنين به , وحينما يفعل ذلك يكون لبنة قوية صالحة تتخذ مكانها اللائق في بناء الجماعة الإسلامية .
ولكنه حينما يكتفي بالانتساب إلى الإسلام , وأداء بعض الشعائر بشكل معتاد رتيب يخلو من حرارة الإيمان ومن حضور القلب أو يَضعُفُ ذلك عنده بحيث لايؤثر على سلوكه .. وحينما يدخل في غمار الحياة وهو يشعر بأنه يتصرف في أعماله اليومية , ويتقلب في مصالح الحياة بوحي من عقله المجرد وهوى نفسه الذي يتذوق الأشياء ثم يختار منها مايناسب هواه, وإن كان في ذلك هلاكه البطئ وهلاك أمته .
وحينما يقف من أعداء الإسلام الذين يتهجمون عليه ويحاولون إضعاف ثقة المسلمين به موقف المتفرج الذي يُظهر عدم المبالاة , أو يتوارى عن الأنظار حتى لايُطلب منه أن يقوم بعمل جاد تجاه دينه الذي أظهر الإيمان به .
وحينما يقف من إخوانه المسلمين الذين يُقتَّلون ويعذبون وتنتهك حرماتهم موقفا سلبيا ناتجا عن أنه كان خالي الذهن من الموضوع وكأن أوضاع المسلمين لاتهمه بقليل ولابكثير , أو ناتجا عن عدم المبالاة بما يجري على إخوانه من حوله , وكأنه مسؤول عن نفسه ولْيفعل الأعداء بالمسلمين ما شاؤوا ما دام أن نار المعركة لم تصل إلى بيته ولم تهدد شيئا من مصالحه الخاصة .
حينما يسلك المسلم هذا السلوك المنحرف ويفكرُ بهذا التفكير السلبي القاصر فإنه لايُعدُّ في نظر الإسلام لبنة صالحة في قيام بنائه العظيم المتكامل وإن أظهر الانتساب إليه ودافع عن حقيقة انتمائه إلى مجتمعه الفاضل .
وحينما تتحطم الجماعة الإسلامية أو يضعفُ لدى المسلم شعوره بالانتماء لهذه الجماعة فإن أفراد المسلمين لن يَعملوا شيئا يذكر في سبيل قيام المجتمع الإسلامي وإن كان هؤلاء الأفراد يؤمنون إيمانا صادقا بهذا الدين .
إن إيمانهم الصادق بهذا الدين من غير أن يجتمعوا على كلمة الحق لايعدو مرحلة الصلاح الفردي, فهو يشبه اللبنات الصالحة للبناء , ولكن ماقيمة اللبنات إذا كانت ملقاة على الأرض , فهي لاتُظل من الشمس ولاتقي من البرد والحر , وإن كانت صالحة للبناء ؟ ولكنه بالتفكير المبدع من المتخصصين بالبناء تنضمُّ هذه اللبناتُ ليشكِّل منها البنَّاء البارع قصرا منيفا يُدهش الناظر ويعجب المتأمل .
وكذلك أفراد المجتمع حينما يكونون يدا واحدة في السراء والضراء , يحملون في أفكارهم الاهتمام الكبير في بناء المجتمع الصالح الذي ينضمُّ فيه الأفراد ويُسهمون في بنائه إسهاما فعالا.
ولابُدَّ لاجتماع الأبدان من أن تجتمع القلوب قبل ذلك , ولا تلتقي القلوب إلا بتخليصها من الغل والحقد , وأن يحب المسلم الخير لإخوانه المسلمين , وأن يكره لهم الوقوع في الشر , كما جاء في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لايؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه مايحب لنفسه " .
وإن من أسباب الْتقاء القلوب أن يعامل المسلم إخوانه المسلمين بالإحسان , وأن لايقابل إساءتهم إليه بإساءة مثلها , بل ينبغي له أن يتجاوز عن الذين يخطئون عليه , وذلك لإشاعة المودة والإيثار بين المسلمين .
وحينما يقيم البنَّاء بناءه على أسس غير سليمة , ويضعُ المواد اللازمة للبناء في غير مواضعها فإن البناء سرعان ماينهار أو يضعف قوامه , وكذلك حينما يتم بناء المجتمع على غير الأسس الإسلامية , أو يكلَّفُ أفراده بغير المهام التي تناسب كفاءاتهم فإن المجتمع ينهار أخلاقيا أو يضعفُ كيانه .
إن المسلمين حينما يجتمعون على رأي واحد , ويرجعون عند الاختلاف إلى مفاهيم واضحة يحتكمون فيها إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإنهم بذلك يكوِّنون مجتمعا قويا متماسكا , لاتستطيع معاول الهدم أن تحطم كيانه , ولا أن تفرق بين أفراده , كالبناء القوي المحكم الذي يصعب هدمه , ويتعرض من يحاول هدمه لاستنكار الرأي العام وتوهين رأيه وتفكيره , ولكنَّ تحطيم لبنات ملقاة على الأرض أو التفريقَ بينها أمر سهل ولايثير الانتباه ولاسخط الرأي العام.
وهكذا رأينا أعداء الإسلام يوم تفرقت الأمة الإسلامية إلى دويلات متفرقة ومجتمعات صغيرة لم يجدوا صعوبة تُذكر في الاستيلاء على أراضيها ومحاولة نزع ثقة بعض أفرادها بدينهم وماضيهم المجيد .
______________
(1) صحيح البخاري رقم 6026 , صحيح مسلم رقم 2585