الفقر و الجسد

الفقر والجسد
• اخترتكِ لأنكِ حرة,, والحرة تموت ولا تأكل بثدييها
تذكّرتْ كلماته ثم أطرقت لتسمع كلمات أخرى تأتيها من بعيد
• عاهرة ... ساقطة .. بائعة هوى
كانت الكلمات في تضادها تعمل في نفسها ما تعمل بينما الرياح لم تزل تعوي و الأرصفة من برودة الشتاء تأن وقد خلا الطريق من الخلائق عدا القليل من السيارات العامة وسيارة شرطة تغدو وتعود من المفترض أنها تعمل علي حراسة أبناء الوطن ولكن كانت السيارة كلما اقتربت منها هدّأت من سيرها وجاء منها كلمات داعرة تدعوها لقضاء أمسية ملتهبة في برودة يناير
• حسبي الله ونعم الوكيل
أكتفت بها ومضت في سيرها وتملكها الشعور بأن كل شيء يستكمل رحلة التآمر علي جسدها الضعيف , تتعاقب خطواتها هزيلة مكبلة إثر مشاجرة خاسرة مع بعض سكارى الملهى الليلي الذي بالكاد أكملت يومها الأول والعمل فيه .

• ربما كان الموت يخافنا طالما لم نخافه

هكذا حدث أصدقاءه في العمل بعد أمسية مضنية وحريق التهم بشراسته ما طالته ألسنة نيرانه إلا جسده . كل شيء بين النيران يدعو إلى الذعر ومع هذا فقد كان حريص كل الحرص على التواجد في قلب النيران مع كل مهمة عمل . لعل الإيمان بالواجب والتضحية هي الكلمات التي كان يرددها دون أن يؤمن بها ولكن كان الدافع ما يرسخ داخله من متعة انتقام .
إنه وفي نيران عمله يحقق انتقامه من قسوة لم يحياها معه أحد من رفاقه فقد كان يرى في ألسنة النيران كلما ثارت ,, وجه لامرأة لعوب هي أمه .. وصوت حفيف لأفعى هي جدران الإصلاحية

• إن قبول الزواج من عامل إطفاء يعد مخاطرة
• ولكن ربما كان الملجأ الوحيد لينتشلني من ذلي هنا

أنهت حوارها مع نفسها ثم أعلنت الموافقة لزوجة أبيها بقبول الزواج من عامل الإطفاء الذي تقدم بطلب يدها رغم الفارق السني بينها وبينه , ثم راحت تنظر لمرآتها وتقرأ كلمات تبعثرت في عينيها ومنطقة وسطى بين القبول والرفض بين الخضوع والعصيان
إن النساء كقطع القماش التي تصنع منها الألبسة ,وكل رداء وثمنه وكل رداء وراغبيه , وما أسوءه من خياط ذلك الفقر حين ينسج خيوط المر أة ليجعلها أرخص من أن تصان وأحقر من أن تنل عيشة هي أهل لها بجمالها وفتنتها ورقتها

• ربما كنت أعمل عاملة نظافة في الملهى ولكنك وبجمالك تستطيعين أن تكونين الفتاة الأولى هناك
تذكرت كلمات زوجة أبيها فزاد إيمانها بقبول الزواج من هذا الرجل فيوم أن تنتقل معه إلي بيته سيرحمها من الذل والعمل كخادمة في بيت زوجة أبيها وقبل كل شيء سيرحمها من إصرار زوجة أبيها علي آخذها والعمل كنادلة في ملهى لا تعمل فيه امرأة إلا وتركت شرفها عند أبوابه.

كانت النيران دوما تأخذه إلى ذكريات أليمة ولكنه يوما لم يهرب منها .
كان يفخر بينه وبين نفسه بسرِّه الدفين, أنه ورغم نعومة أظافر طفولته استطاع أن يتخلص فيها من أكثر النساء عطفا عليه وحبّا له بعد أن رآها تتلوى عارية بين أحضان رجل غريب
ظنت أنه سينسى ما رأى بأن تعطيه كل النقود الذي خلفها هذا الزائر الليلي ولكن جاءت الأيام والنيران ليكن لهما قولا أخر
لم تحمله آهات استغاثتها وهي تحترق إلي الإشفاق عليها بقدر ما حملته إلي آهات رغبتها التي سمعها منذ ليال بأذنيه , فكانت كلما طلبت النجدة زاد عليها سائل القنديل الذي أغرق به فراشها بينما يطويها النوم وكأنه يغسلها من خطاياها بالنيران, ورغم إصراره على ما كان يفعل كان يشاركها الصراخ والبكاء .

* رحمك الله يا أبي ,, لو كنت تعرف ماذا ستفعل بي زوجتك بعد وفاتك ما تزوجتها
عندما يصبح اليتم والمذلة زاداً وماء وعندما تنبت الأنوثة ثمارها في أرض ليس لها من حارث تصبح المرأة بكل ما فيها درباً للذئاب بأفعالهم, بعيونهم, بألسنتهم
تنهش فيها وتنهل منها وترد هي ما ترد وتصد عنها ما تصد وتظل دوما في عيون الجميع سلعة رخيصة لا من طارق للباب يطلب الزواج ولا من عفة تأتي لعيون باعت ضمائرها تحت وطأة الفقر والحرمان , كانت هناك بعض العيون التي تعاملها باحترام وتطلب ودّها برقّ ولكن ما تشبعت به من خوف وذعر جعلها تعامل الجميع بعين واحدة ,عين المقهور إذ يسلب عرضه فلا يجد إلا خشونة التعامل والرد .

طوته الإصلاحية لخمسة عشر عاما نال فيها ما نال من أصناف الإهانة والتعذيب ولكنه دوما كان يرى داخل سرَّه الدفين, أنه وُلد كرجلِ يحمل من الشرف ما يجعله يقتل أكثر من أحبَّ في الدنيا .
كلما طواه العمل ومهمة جديدة في السيطرة على حريق ما , يراه رفاقه وكأنه ساحر يطوي النيران بين يديه ليحولها إلى برد تحت قدميه ومهما كان صوت النيران عاصيا تظل دوما الغلبة له وليديه
لم يكن له شيء ليخسره, فمن قلب القسوة جاء ومن داخل الوحدة نبتت شجرته وما كان ترويض النيران إلا بذات اليدين التي غسل بها عاره من قبل عبر حريق دبّرهُ لأمه في فراشها .

• اخترتكِ لأنكِ حرة,, والحرة تموت ولا تأكل بثديها
كان هذا جوابه لها عندما سألته عن سر اختياره لها كزوجة لم يخجل ليلتها في أن يقصّ عليها حكايته مع النيران لعلَّ في قصته رسالة تؤكد عليها أن يكون الموت أهون عليها من أن تبيع جسدها .
قصّ لها كيف سمع عنها من صديقه في العمل الذي وصف له جمالها ومعاناتها من ذل زوجة أبيها ورفضها أن يكون جسدها هي وسيلة عيشها وهناءها, وكيف سعى بنفسه ليتأكد مما سمع, وبينما يضمهما الفراش وحكاوي زوجين حديثي الزواج انقطع حوارهما على مكالمة هاتفية تدعوه لسرعة التواجد في العمل.

• كيف ستواجهين الحياة والترمل بينما أنتِ حامل
وضعت يديها على بطنها وكأنها تتلمس العون من جنينها ثم قالت بثقة
• لنا الله
راحت تحسب مصروف المنزل وإيجار الشقة ومتطلبات الحمل والولادة في ضوء المعاش الشهري والمبلغ الذي صرفته لها الدولة عند وفاة زوجها وبالفعل سارت الأمور كما توقعت إلى أن أخبرها الطبيب أن جنينها يحتاج إجراء عملية لاستحالة الولادة الطبيعية ........
كانت تحتفظ ببقايا من الإصرار, فباعت بعض من أثاث الشقة وأكملت على ما في حوزتها وتمت العملية وعندما أفاقت طلبت رؤية جنينها فكان الجواب ما لم تتوقع ,,إن جنينها لابد وأن يتم الاعتناء به داخل المشفى لمدة لن تقل عن الستة أشهر, يكون تكلفة اليوم الواحد ألف جنيه تقريبا .
هنا انهارت قواها وراحت تفك شفرات الحياة التي لا تزيد الفقير إلا فقراً ولا تزيد المكلوب إلا غمَّا وحزنا .
اندفعت تطرق الأبواب, نفذ كل ما لديها , فكّرت أن تلجأ للشحاذة, فكرت في كل شيء وفعلت كل شيء ولم تجد بابا للرحمة, حتى السرقة فكرت فيها .
كانت كلما نظرت إلى جنينها يبكي تضمه غرفة زجاجية, بلّلت بدموعها الحائط الزجاجي وما أن تنصرف تبقى دموعها فوق الحائط الزجاجي ترفض أن تجف وكأن حتى الزجاج سار يبكيها ويبكي طفلها .

* موافقة على القدوم معكِ ولكن ليكن ذهابي لتقديم المشروبات لا أكثر ...
كانت في قرارة نفسها تعرف أن طريق التنازلات يبدأ بخطوة وما كان ذهابها لتقديم المشروبات في هذا المكان إلا الخطوة الأولى في طريق بيع جسدها الذي ستكمله شاءت أم أبت طالما أخذت بخطواتها إلى هناك ومحض إرادتها ولن يفيد سواء أكانت بإرادة راغبة أم بإرادة لم ترغب .
• تموت الحرة ولا تأكل بثديها
عادت الكلمات من جديد لتكن أنيسها في دربها فتبسمت باكية متهكّمة من قائلها
* لو ذاق قائلها مرارة أن يموت ولده أمامه جوعا وألما, لباع كل جسده لا فقط ثديه وأطعمه

*****